الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة تمازج الاختصاصات وتواشج القطاعات: معرض "خوذ نفس" برواق "خارج الإطار" أنموذجا

نشر في  25 نوفمبر 2025  (12:40)

نصّ: ياسمين الحضري

 ما إن ذاع صيت الإعلان عن الدّورة 59 لمعرض صفاقس الدّولي حتّى كُشف للعموم عن ولادة مولود جديد، رواق للفنون سمّي بـ "خارج الإطار" "Hors Cadre" في شراكة بين جمعيّة المعارض والمؤتمرات الدّوليّة بصفاقس وجمعيّة أحبّاء الفنون التشكيليّة. يبدو منذ الوهلة الأولى أنّ الأمر ليس بالهيّن أمام اختلاف المسالك "اقتصادي، فنيّ، ثقافي، اجتماعي" فكانت العمليّة حقيقة عبارة عن لعبة "المربكة" "Puzzle " حيث يقوم القائمون على هذا الحدث في البحث الدّائم عن ضمّ كلّ مسلك مع الآخر حتّى تتماسك كلّ المسالك ببعضها كما قطع اللّعبة وفق تركيبة محكمة في وقت قياسيّ.

أفرز هذا التعاون ثمرة تمّ قطافها يوم 17 جوان 2025تمثّل في افتتاح رواق "خارج الإطار" الذي احتضن أوّل معرض جماعيّ له "خوذ نفس" والذي ضمّ قرابة 48 عمل فنّي لواحد وثلاثين فنّان تشكيلي من ولاية صفاقس وخارجها.

أعمال فنيّة تنوّعت باختلافها مفهوما، تقنيّة وعرضا واتّحدت مع الجدار الأزرق الملكيّ فزادها عمقا واستوعبها وزادها هيبة وبهاء. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى ذكاء اختيار هذا اللّون الجريء من قبل السينوغراف "محمّد نجاح"، وما الجرأة إلاّ في القطع مع المعتاد والمألوف نحو اللاّمألوف في تجاوز الأبيض رغم نقاوته ونصاعته.

في الحقيقة هو ليس تنكّر للون لطالما صاحبنا في معارضنا أو نكران لجميل الأبيض بقدر ماهو دعوة للتحرّر، بل لعلّها استراتيجيّة التغيير بهدف القطع مع النّمطيّة. ومع الأزرق الملكيّ سعى السينوغراف أن يقسّم الفضاء وفق تقسيم مريح يجعل الزّائر يتجوّل بين اللّوحات والأعمال بسلاسة، حيث تبدأ بأخذ نفس عميق من الأحرف وصولا "للاكتفاء الخطّي" في مزاوجة بين الخطّ الكوفي المربّع والمغربي المبسّط مع تنصيبة الفنّان "عبد اللّه عكّار" المعنونة بالمعلّقات السّبع فتجعلك في متنفّس مع الشّعر بين شذرات نصيّة للمتنبّي وأخرى لامرئ القيس دون أن ننسى العنتريات.

 

معلّقات تجعل من التّقبّل يفرض النّظر إلى أعلى في محاولة سموّ بين هالة الإحساس والطّاقة النابعة من الحرف واللّون مع المرور بين كلّ معلّقة وأخرى. ربّما يكون هذا العرض التّنصيبي جوازا لمواصلة رحلة اكتشاف المعرض وهو ما يعكس ذكاء السينوغراف ليشدّ انتباه المارّين والمتقبّلين على حدّ سواء في هذه السّفرة الفنيّة. ولعمري أنّها سفرة بامتياز حين تدخل من أوّل فاصل حدوديّ محاذ "للعكّار" لتجد عالم "شمّام" صاحبة التّنصيبة التي احتلّت مركز الرّواق ذات المنافذ الأربع.

 فحين يلتقي اختصاص "الأركيولوجيا" و"الحفر الفنّي" فإنّه من البديهيّ أن ينتج خلطة فنيّة رفيعة، وإنّ هذه التنصيبة لا يتمازج فيها اختصاصان فحسب بل يمتزج فيها "الفنّي بالاسترجاعي" و"الفنّي بالبيئي" وكلّ هذه التمازجات والتزاوجات نستشعرها من تلك الآلة الطّابعة الشّاهدة على طفولة الفنّانة ولطخات الحبر والأحرف المطبوعة.

لا ننسى أيضا تلك المنحوتات التي كانت بمثابة الحارسة لمنافذ الفواصل فلعلّ طاقة الرّخام في عمل "حسام غربال" و"صالح بن عمر" امتزجت مع رائحة الذّكريات النّابعة من أوراق التنصيبة المتأرجحة.

ومع كلّ هذه التّواشجات تقبع امرأة "سماح بوشعّالة" في حالة سلام تستنشق عبق الزّهرة آخذة نفسا في عمل "Renaissance" في وضعيّة مقابلة مباشرة مع تلاطمات أمواج البحر وزرقته في عمل "عائدة الكشو خروف"، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على انتقاء السينوغراف المحكم لأمكنة عرض الأعمال موضوعا، تركيبا وحتّى مدى استيعابها لمنافذ الإضاءة الطّبيعية ومدى تأثيرها على العمل.

هنا لابدّ من الإشارة إلى ضرورة "التعاضد بين الاختصاصات" "la synergie entre les spécialités" ما بين الفنّان والمصمّم في محاولة تمازج الاختصاصات باعتبارها رهانا من رهانات المعاصرة، وذلك بالبحث عن النّقاط المشتركة بين الاختصاصين وتبادل الخبرات المعرفيّة والمكتسبات، لذا كان السّير نحو توحيد الأهداف المرجوّة وآفاق تطوير الفنون والتّصميم والبحث عن استراتيجيّة تنهل من التّقدّم التّقني والوسائطي من أجل أفق نرتجيه قائم على تداخل الاختصاصات وكلّ ذلك نابع من سؤال جوهريّ عن حاجة التّصميم للفنون التّشكيليّة اليوم والعكس صحيح.

 إذن إنّ المتمعّن في هذا الحدث الفنيّ ليجد أنّ "التّخاصص" "l’interdisciplinarité" كان المحرّك الأساسي لها فيما ذكرناه سابقا وخاصّة في القرب من المتقبّل نحو فتح رواق فنيّ في قلب المدينة النّابض بمعرض صفاقس الدّولي ذو الصبغة التجاريّة الاقتصاديّة وهو ما يجعل من الرّؤية واضحة في توحيد الاختصاصات بين "الاقتصادي- الفنّي" وبين "السوسيو- ثقافي" باعتبار القرب من قاعدة اجتماعيّة أكبر نحو توسيع جمهور المستهلكين الفنّي.

إنّ هذا ضرورة يدلّ على أنّ الفنّ التشكيلي كاتّجاه قادر على الانخراط والبحث بل والبعث أيضا في إطار تخصّصات أخرى وذلك من أجل آفاق تطوير الفنون والانسانيات والجماليات وهو من شأنه أن يمتّن الرّوابط بين الفنّان والآخر وتوسيع دائرة التقبّل لنطلق على كلّ ذلك ب "Le Co-création" "الخلق المشترك" بغية إيجاد حلول في توسيع شبكة العلاقات والاتّجاهات.

إنّ هذا التشابك العلائقي بين الاقتصادي، الفنّي والمجتمعي خلق فرصة للتنفّس والتجدّد بل السفر والحلم بمستقبل فنيّ على مستوى الجهة إن صحّ التعبير خاصّة في ظلّ غياب أروقة للفنون في بلد المليون ساكن بل مكسب ربّما لكلّ منطقة الجنوب وخلق حياة ثقافيّة جديدة بنفس جديد خلافا لما هو موجود.

أسدل الستار عن هذا المعرض يوم 30 جوان 2025 بحفل اختتام بهيج فاتحا الآفاق نحو مشاريع وتظاهرات فنيّة أكبر بين رقص على وقع الأحلام وأحضان وتشابك للأيدي في دعوة للمواصلة والتقدّم والتعلّم مع بعضنا البعض كيف نكون هنا؟ وكيف نعيش؟ على رأي روسو.